لمّا كبرنا. لمَ لم تظل الدنيا بهذه البراءة والجمال والبساطة؟!

قبل الفطار بدقائق معدودة خرجتُ لأجلس أمام المنزل، نظرت ناحية المسجد على الجهة اليمنى من منزلنا، فإذا بي أرى صفوف من الأطفال ينظّمون أنفسهم وكأنهم في حالة استعداد لشيء ما. هم ينتظرون اللحظة التي يبدأ فيها المؤذن بالأذان حتى ينطلقوا مسرعين إلى بيوتهم، جلست لأتابع المشهد اللطيف هذا الذي ذكرني بأيام طفولتي حيث كنت أفعل تماماً كما يفعلون. لا شيء تغيّر. يفعلونها بنفس الطريقة التي كنت أفعلها أنا وأصدقائي حينها.

شعرت بسعادة عارمة وأنا أنظر إليهم يرتبون أنفسهم، يحرصون على التركيز وعدم الكلام كثيراً حتى ينصتوا لصوت المؤذن في الراديو. بقيت متحمساً معهم ومنتظراً بشغف لحظة العرض المهيب. أنظر في أعينهم وأرى فرحتهم الطفولية البريئة، وأتسائل. لمّا كبرنا. لمَ لم تظل الدنيا بهذه البراءة والجمال والبساطة؟!

أتخيل الواحد منهم بعد عشر سنوات من الآن، يصارع مشاكل الحياة ويسير هائماً ع وجهه، ربما يوماً ما يجلس نفس جلستي هذه يشاهد أطفالاً صغاراً يكررون نفس المشهد المتوارث، ويتسائل نفس سؤالي. لمَ لم تظل الدنيا بهذه البساطة والبراءة؟!

انقطع خيالي فجأة وعدت إلى الواقع، حيث اللحظة المنتظرة قد اقتربت وازداد معها حماسي لرؤيتهم، ما إن سمعوا خرخشة الميكروفون حتى تأهبوا واستعدوا للمرة الأخيرة. قال المؤذن “الله أكبر”. رأيت أسراباً من هذه الوجوه البريئة تتقدم نحوي كأنها الحرب، لا هذا تشبيه ظالم. بل كأنهم ملائكة موكلة بالسلام، تستطيع سماع ضحكاتهم أثناء انطلاقهم، تستطيع أن ترى السعادة في عيونهم وتشعر أنت بها. وكأن سعادتهم عدوى نقلوها إليك بكل حب. مرّوا من أمامي كنسمة هواء باردة خفيفة تلقي علي السلام بالأعين.

انتهى العرض إذن، وقفتُ وعلى وجهي ابتسامة عريضة نسيت معها الواقع ونسيت كل مشاكل الدنيا.

“هي دي الحاجة الوحيدة اللي باقية”

أدرت وجهي ناحية الصوت لأرى جاري يبتسم ويشعر نفس شعوري ويوجه كلامه إلي، يخبرني أن أجواء رمضان في ظل فيروس كورونا اختفت تماماً. أصبح رمضان عادي مثل أي شهر آخر بل أقل من العادي. يخبرني أن مشهد هؤلاء الأطفال أصبح المشهد الوحيد الدال على أننا في رمضان. المشهد الوحيد الذي لم تستطع الكورونا أن تقضي عليه.

لم أكن أظن يوماً أن مشهداً كهذا سيمنحني كل هذا الشعور بالسعادة والرغبة في حب الحياة. لطالما كانت السعادة في التفاصيل اليومية البسيطة، ولطالما غفلنا عنها ولم نعطي لأنفسنا الفرصة لتأملها. وبعد ذلك نشتكي ونتسائل، لماذا لا نستطيع أن نشعر بالسعادة، وأين تكمن هي حتى نحصل عليها؟!

نطرح السؤال، ونعرف الإجابة.. نتظاهر بأننا لا نعرفها لسهولتها وبساطتها، ثم نستمر في الشكوى، ونطرح السؤال. وهكذا.

أما أنا فقد أتخذت قراراً بأني لن أفوت هذا المشهد طوال أيام رمضان، فقد عرفت أين تكمن السعادة وكيف أحصل على قدر منها.

سأخرج كل يوم في نفس الموعد قبل الفطار بدقائق قليلة لأتابع هذا السرب الملائكي الذي منحني السعادة ولو للحظات قليلة.


*هذه القصة القصيرة أو بالأحرى الخاطرة البسيطة كتبتها في رمضان الماضي 2020 في أول يوم، لم تكن هذه المدونة موجودة حينها لذا قمت بإعادة نشرها.


اكتشاف المزيد من مدونة هشام فرج

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رداً