لا تؤجل زيارة المريض إلى الغد.. الموت لن ينتظر!

قبل عام تقريباً كتبت مقالاً عن دروس علمتني إياها الحياة، من بين تلك الدروس: لا تنتظر فلن يأتي الوقت المناسب أبداً. حكيت قصة هذا الدرس وكيف أنني لم أتعلمه من مرة واحدة كالأذكياء وإنما رسبت فيه مراراً وتكراراً.

اليوم يمكنني القول أنني تعلمت الدرس جيداً بل وطبقته! استطعت زيارة مريض قبل أن توافيه المنية بست ساعات.

عودة بالذاكرة

أيام الثانوية، تقريباً في عام 2012.. كانت معظم دروسي في الصباح الباكر، أستيقظ لصلاة الفجر ثم أصطحب كراستي وقلمي وأخرج من بيتي ذاهباً للدرس. في طريقي كان هناك مشهد يتكرر يومياً دون انقطاع لدرجة أثارت انتباهي!

رجل كبير في الستين من عمره، لكن لا تبدو عليه علامات الكِبَر. يركب دراجة موديل قديم جداً لكن تراها تشعر أنها جديدة من شدة اهتمامه بها وصيانته لها. أراه يومياً عائداً لا أعرف من أين في مثل هذا التوقيت. ما إن يراني حتى يُلقي عليّ السلام باسمي وأحياناً يكلّف نفسه عناء رفع يده. في تلك اللحظات كنت أخشى من أن يختل توازنه وأصرخ في سري: ثبّت يدك على المقود أرجوك حتى لا تحدث كارثة!

ومع تكرار المشهد، أذهلتني شخصية هذا الرجل. شعلة من النشاط في مثل هذا العمر! كان أكثر صحة وحيوية من شباب العشرين أنفسهم. يروح ويجيء ويقضي مصالحه ومصالح بيته وكل مشاويره بهذه الدراجة التي أصبحت رمزاً يميزه في بلدتنا. وأصبح الرجل نفسه رمزاً للنشاط يُضرب به المثل إذا أراد أحدهم توبيخ ابنه على كسله وإهماله.

وليس ذلك فقط ما يميزه في حقيقة الأمر، بل كان أيضاً مرحاً خفيف الروح يحب المزاح. من نوعية الأشخاص الذين تستمتع بالجلوس معهم وسماع أحاديثهم. وكانت ضحكته بمفردها قادرة على جعلك تضحك ذلك أنّه كان يضحك بعفوية خالصة نابعة من القلب.

عودة للحاضر

بالأمس بعد مجيئي من الامتحان، علمتُ أن الرجل النشيط لم يعد كذلك، تخطّى السبعين من عمره ودخل في معركة مع الزمن الذي لا يرحم. دخل في غيبوبة منذ أيام وأخبر الأطباء أسرته بحقيقة الأمر وأنه يقضي أيامه الأخيرة.

قلت لنفسي هيا نذهب لزيارته ورؤيته ربما للمرة الأخيرة، لكنها أخبرتني: هشام.. للتو جئت من الامتحان، وأنت مُصاب بصداع لم يتوقف منذ الصباح (كما أوضحت في تدوينة الأمس) وعليه أنت بحاجة للراحة. علاوة على ذلك لم تكتب تدوينة اليوم بعد، متى ستنوي كتابتها؟ أم أنك تريد التخلّف عن الالتزام بالتحدي؟!

لكنني لم أطاوعها هذه المرة كما طاوعتها من قبل مرات عديدة وكنت أندم بعدها. أدركت أنني لو انتظرت للغد لزيارته فربما يكون الأوان قد فات. لذا عزمت على قطع كل الطرق أمام نفسي للوقوع في هذا الفخ مرة أخرى وأنني قد تعلمت الدرس ولن أفشل مجدداً.

صليت المغرب وذهبت لزيارة الرجل الطيب الذي أتعبني مشهد رقوده في الفراش موضوعاً على جهاز التنفس بالكاد كان تنفّسه ضعيفاً أيقنتُ معه أنه في مرحلة بداية النهاية. طبعتُ قبلة حزينة على جبينه وسارعتُ بالخروج.

لم تمر سوى 6 ساعات حتى وافته المنية ورحل عن الدنيا في يوم مشمس خفيفاً سهلاً كما كان حاله فيها.

أكتب هذه التدوينة بعدما فرغنا من جنازته، وسامحوني على هذه القصة الحزينة ولكن لعّل هذا المشهد الأخير الذي شهدته أثناء الجنازة هو حسن الختام للتدوينة.

كان ورائي رجل ملتحي وإمام مسجد قريب من بلدتنا ويأتي بين الحين والآخر يصلّي بنا في المسجد المجاور لي ويطربنا بصوته الجميل. يقف ورائي يردد – بصوت خافت لكنه مسموع – أدعية للمتوفي، يدعي بما فتح الله عليه وتستطيع الإحساس بإخلاصه في الدعاء من قلبه، وأنا أمامه أردد في سرّي: آمين!

ظل هكذا أثناء مراسم الدفن، لم يتوقف ولم يملّ من الدعاء. إن نفذ مخزونه من الأدعية التي يحفظها توقف قليلاً وأخذ يردد بعض آيات القرآن ذي الصلة بالموقف الذي نشهده، ثم ينتقل إلى ذكر الله والاستغفار ولم ينتهي إلا عندما فرغنا من الدفن والدعاء للميت.

رحمه الله وأدخله فسيح جناته، لا تنسوه من دعائكم. 🙏


اكتشاف المزيد من مدونة هشام فرج

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

4 رأي حول “لا تؤجل زيارة المريض إلى الغد.. الموت لن ينتظر!

اترك رداً