مساء الخير..
هل صادف أحدكم مجموعة أحداث حزينة متلاحقة لدرجة أنها لم تترك لك فرصة لتفسير ما حدث؟
هل صادف أحدكم عدّة وفيّات مفجعة في أقل من شهرين، وكأن الموت اتخذ من بلدتكم سكناً له؟
إذا لم يصادف أحدكم ذلك فاسمعوا من شخص صادف.
في يوم هادىء من أيام شهر أكتوبر، بدأ طرف الخيط الذي جلب بعده غيمة من الأحزان مستمرة حتى الآن ولا نعلم متى ستنقشع!
بدأت القصة بتلقينا خبر انفجار اسطوانة غاز في أحد الطوابق في بيت قريب لنا، واشتعلت النيران في شابّين أحدهما في عمر الثامنة والعشرين والآخر كان على مشارف الدخول في العشرين من عمره.
نُقلوا على الفور إلى المستشفى في حالة حرجة لدرجة أن المستشفى لم تقبلهم نظراً لخطورة الحالتين وأمرت بتحويلهم إلى مستشفى أفضل في العاصمة القاهرة. أحد الشهود الذين حضروا الحادث روى أنه رأى تساقط الجلد من جسد الشابّين من شدّة الحريق!
في المستشفى تم وضعهم على أجهزة حديثة لإبقاءهم على قيد الحياة، لكن أقدارهم كانت على وشك الانتهاء. فبعد أسبوعين فقط من الحادث تُوفّي الشاب الأصغر إذ كانت حالته شديدة الخطورة ولم يستطع الصمود.
كانت جنازته ليلاً.. لم أرَ في حياتي مثل هذا العدد الضخم الذي حضر جنازته وذلك التأثّر الذي رأيته على وجوه المشيّعين الذين جاؤوا من مناطق مختلفة وربما لم يقابلوا الشاب من قبل. فما بالكم بأهله وأسرته؟!
حاول الجميع تقبّل ما حدث والرضا بقضاء الله، والالتفات للشاب الآخر الذي ما زال على قيد الحياة رغم حالته الخطيرة هو الآخر إلا أن الجميع كان يُمنّي نفسه بأنه سينجو.
لم يمرّ سوى أسبوع (بالتحديد ثمانية أيام) حتى تلقّينا خبر وفاة الشاب الآخر ذو الثمانية وعشرون عاماً، والذي كان عقد قرانه قبل وقوع الحريق بيومين فقط!
لم يكن هذا فحسب ما يخبّئه لنا هذا اليوم الغريب، بعدما تلقّينا خبر وفاته وفي انتظار وصول جثمانه من القاهرة تلقّينا خبر وفاة شخص آخر من بلدتنا لكنه مقيم في القاهرة يعمل بها. تُوفّي هذا الشخص بفيروس كورونا وكان شابّاً هو الآخر وشيخاً يحفظ القرآن.
ظللنا ننتظر وصول إحدى الجنازتين قبل الأخرى، وشاءت الأقدار أن تصل الجنازتين في نفس التوقيت ليُصلّى عليهما في نفس المسجد ويذهبا إلى مثواهما الأخير معاً.
هذه المرة لم ألحظ على وجوه المشيّعين – وأنا معهم – علامات التأثر فقط، بل الذهول كذلك. في ظرف أسبوع واحد كيف غيّم الحزن على عائلتين وعلى البلدة بأكملها؟
لا أخفي عليكم سراً.. بعد هذا الحادث المؤلم حاولت التعايش معه ونسيانه كما يُفترض أن الجميع قد فعل ذلك ففي الأخير هي سنّة الحياة وكلنا سنموت. لكنّي لم أنجح في تخطّي هذا القدر من المأساة، في صباح اليوم التالي شرعت في متابعة أعمالي ودراستي لكن دون جدوى.
حاولت مراراً التغلّب على هذا الشعور بالحزن والتأثر وفشلت، وأمامي أعمال كثيرة تحتاج لأن أقوم بها قبل الموعد النهائي. لكنّي لم أكن في حال تسمح للقيام بأي عمل، وأُصبت بقفلة الكاتب فلم أستطع كتابة جُملة واحدة.
هنا أيقنت أنني بحاجة إلى الاستراحة قليلاً حتى تنقضي هذه الفترة. اعتذرت عن بعض الأعمال التي كانت مُوكلة إليّ وتفهّم أصحابها الأمر.
وتركت الأمور تسري كما تسري دون تدخل منّي، أردت لهذه المشاعر أن تأخذ كامل وقتها مهما طالت مدتها. وكنت على استعداد للتخلّي عن كافة الأعمال والمشاغل حتى لو وصل الأمر للاستقالة وخسارة الوظيفة. فلن أستطيع الاستمرار بحالة نفسية غير جيدة.
مرّت الأيام.. أيام قليلة حتى توفّي رجل كبير في السبعين من عمره وذكرتُ قصته في هذه التدوينة: لا تؤجل زيارة المريض إلى الغد.. الموت لن ينتظر!
حاولت التماسك والحفاظ على ما استطعت استعادته بنجاح من حالتي النفسية وألّا تسوء مرة أخرى فلديّ أعمال كثيرة على عاتقي فضلاً عن اقتراب امتحاناتي.
أما الوفاة التي حدثت اليوم فقصتها عجيبة وتعود لعشر سنوات مضت. أم لستّة أولاد رجالاً صالحين يسارعون في فعل الخيرات وهذا دأبهم على مرّ السنين.
قبل عشر سنوات وفي سن الثلاثين تقريباً مات ولدها الذي عُرف بطيبته وأخلاقه الحسنة وحزن الجميع على فراقه وموته المفاجئ إذ لم يكن يعاني من أية أمراض بل كان في ريعان شبابه.
تمرّ السنوات.. حتى كان منتصف العام الماضي (2020) مات ولدها الثاني في عمر الأربعين بعد إصابته بتليّف في الكبد.
والأم المسكينة ما زالت صابرة ومحتسبة لكن أثّرت فيها وفاة هذا الابن وأصبحت طريحة الفراش وأصيبت بمشاكل صحية نتيجة حزنها على ولديها!
لم يمرّ سوى عام بالضبط، وفي أغسطس من العام الحالي (2021) مات ولدها الثالث أيضاً في عمر الأربعين فجأة بعد عملية جراحية بسيطة جداً ليست بالخطيرة وكان ذلك ثاني أيام عيد الأضحى المبارك.
في ذلك الوقت كانت الأم تعاني من مشاكل صحية، ولم تسترد عافيتها بعد وفاة الابن الثاني. لذا فضّل أولادها الثلاثة المتبقين إخفاء خبر وفاة أخيهم عنها حتى لا تُصاب بصدمة قد تؤدي إلى وفاتها.
لمّا كانت تتحسن صحتها قليلاً تستيقظ وتسأل عن ولدها الذي لم تعلم بخبر وفاته: لماذا لا يزورني ابني؟ ألم يعلم بمرضي؟ ألا يستطيع الاطمئنان على والدته الطاعنة في السن؟!
كانت غاضبة عليه وتطلب منهم الاتصال به لكي تسمع صوته، لم تكن تعلم أنه فارق الحياة منذ أشهر ولم يكن إخوته يعلموا كيف يجيبوا على أسئلتها، أيخبروها بوفاته ويستسلموا للقدر المحتوم أم يستمروا في خداعها وتظلّ هي معتقدةً أن ولدها متحجّر القلب وقاسٍ على أمّه؟!
اليوم.. لحقت هذه الأم بأولادها الثلاثة، وبعد ثلاثة أشهر من وفاة الابن الثالث التي ماتت دون علمها بوفاته. وكأنها لم تحتمل العيش أكثر من ذلك، وكأنها أحسّت بغريزتها الأمومية أن الموت قد أخذ ولدها الثالث ففضّلت اللحاق به وبأخويه السابقين!
غيمة من الحزن حلّت على بلدتنا.. وما زال الموت ساكناً بين طرقاتها يأبى المغادرة.. أتساءل متى سيغادر؟ وبمن يتربّص هذه المرة؟!
اسأل الله أن يرحم أمواتنا وأموات المسلمين وأن يرزقنا حسن الختام.
اكتشاف المزيد من مدونة هشام فرج
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
رأي واحد حول “عن الموت الذي يتربّص ببلدتنا ويأبى المغادرة”