في رثاء أول وفاة بكورونا في بلدتنا، وليس لهذا السبب أرثيه. تدوينة شخصية

Photo by Isaac Quesada on Unsplash

تنويه: هذه تدوينة شخصية كان من المفترض أن تظل في دفتر يومياتي الذي لا يطّلع عليه أحد، لكنني رأيتُ تخليد ذكرى هذا الرجل وأن تترحموا عليه معي لعلّ أحد القلائل الموجودين هنا يتابعون المدونة أصلحُ حالاً مني فتقبل دعوته.

عودة بالزمن لأواخر 2018

أثناء أزمتي الصحية التي سردت تجربتي فيها في مقال هنا على المدونة، أصبتُ بمرض السل واحتجزت في المستشفى لمدة شهرين. وكان ذلك بالتزامن مع امتحانات نصف العام فسمح لي مدير المستشفى بالخروج لأداء الامتحانات ثم العودة للمستشفى مباشرة. وفي أحد الأيام بعدما خرجتُ من امتحان لا أذكر مادته اتصل بي رفيقي في الغرفة المجاورة لغرفتي وأخبرني أن هناك رجل ينتظرني منذ الصباح الباكر فأخبرته أنك في امتحان وقد تتأخر فأخبرني أنه سينتظرك مهما تأخرت. فأسرعتُ الخُطى ولمّا أعرف بعد هوية هذا الرجل، لا بد أنه قريب لي أو شخص يحبني كثيراً لدرجة أن يقضي ساعات طويلة في انتظاري.

وصلتُ المستشفى وصعدت للدور الثاني حيثُ توجد غرفتي ففوجئت بهوية الرجل، لا تجمعنا صلة قرابة ذات أهمية، مجرد رجل من بلدتي نتبادل التحية بين الحين والآخر! صافحته بحرارة وشكرته على اهتمامه ودعوته للدخول إلى الغرفة فدخل وكان يحملُ في يده بعض أكياس الفاكهة فقدمتُ له شيئاً منها وتبادلنا الحديث. تمنّ لي الشفاء العاجل وأخبرني أنه بمجرد معرفته بالأمر قرر المجيء إليّ وزيارتي. جلسنا قرابة الساعة نتحدث وفي الأخير همّ بالانصراف داعياً لي بالشفاء فشكرته ثانية وشددتُ على يده وأنا في ذهول!

بعدها جلستُ في غرفتي أتسائلُ عن سر اهتمامه بي وهو ليس مُجبراً على ذلك، لن يلومه أحد إن لم يزرني أو يسأل عني إذ ليس بيننا أية علاقة لا قرابة ولا صداقة! عكس بعض أصدقاء وأقارب لم يكلّفوا أنفسهم حتى عناء مكالمة هاتفية للاطمئنان على حالتي.

قضيتُ اليوم كله وأنا أشعرُ بالامتنان والتقدير لهذا الرجل وعزمتُ على تقوية علاقتي به فور خروجي من هنا، وبالفعل بعد مروري من تلك الأزمة كان يأتي كل جمعة ليصلّي في مسجدنا فكنتُ أخرج من المسجد بعد الصلاة أنتظره حتى أصافحه وأسألُ عن حاله. وإن قابلته في الطريق صدفة كنت أرفعُ له يديّ مُبتسماً لتحيته.

الإثنين، 1 فبراير

مات الرجلُ بكورونا.. كنتُ جالساً في غرفتي أتفقدُ رسائل البريد كعادتي كل صباح وجاءني خبر وفاته فصعقتُ مرتين: الأولى أنه كان مريضاً منذ ثلاثة أسابيع ولم أكن أعلم، والثانية أن وفاته كانت بسبب كورونا اللعين وهي أول حالة وفاة في بلدتنا. كان محجوزاً في العناية المركزة في نفس المستشفى التي زارني فيها قبل سنتين!

شعرتُ بالذنب والتقصير في حق هذا الرجل، لم أستطع أن أرد له الجميل والعرفان. ربما أثناء مرضه لم يكن يفكر إطلاقاً في أن عليّ أن أزوره كما فعل. الأنكى من كل هذا أنني لم أره منذ مدة طويلة ولم ألتقي به وبالتالي لم أحسن وداعه كما ينبغي. لم أستطع أن أمنع نفسي من الندم والشعور بالذنب.

الإثنين، 1 فبراير: مشهد الجنازة.

كانت جنازته مهيبة، مئات المشيّعين شيوخاً وشباباً وحتى الأطفال. على طول الطريق نساء يتابعن المشهد من خلف الأبواب. وأخريات لا تجمعهن صلة قرابة بالرجل لكنهن يبكين بمرارة وكأن الفقيد فقيدهن.

نسيرُ في الجنازة ولا ندري أي مجهول ينتظرنا، ربما غداً سيصابُ خمسة منا بكورونا أو عشرة أو ربما كل من يشيّعون الرجل الآن قد كُتب في سجل أقدارهم أن رحلتهم في الدنيا ستنهيها الكورونا في الأيام والشهور المقبلة. من يدري؟!

وكأن الكورونا لسان حالها يحذّرنا: إن لي فيكم لعودة ثم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحداً.

الدرسُ الذي خرجتُ به من هذا الحدث المؤلم:

في المرة القادمة التي تقابلُ فيها أحداً تمهّل، صافحه بحرارة، تأمل ملامحه جيداً، ابتسم في وجهه، أظهر له التقدير والامتنان إن كان يستحق ذلك. صافحه وكأنها المرة الأخيرة التي ستراه فيها.

صدقني، هذا أفضل بكثير من شعورك بالندم والحسرة إذا جاءك خبر وفاته بعد لقائكما وتكتشف أنك لم تودعه وداعاً لائقاً حين كان ذلك مُمكناً ولن يكلّفك الكثير.

رحمة الله على هذا الرجل وأسألُه أن يجعل مرضه هذا شفيعاً له يوم القيامة.


اكتشاف المزيد من مدونة هشام فرج

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

4 رأي حول “في رثاء أول وفاة بكورونا في بلدتنا، وليس لهذا السبب أرثيه. تدوينة شخصية

اترك رداً